عنوان الموضوع : التوبة .. قصة تكتب بماء العيون
مقدم من طرف منتديات المرأة العربية

عَلِمَ فلان ، و كان شابا من شبان الخلاعة و اللهو ، و قاضيا من قضاة المحاكم ، أن المنزل الذي يجاور منزلة يشمل على فتاة حسناء من ذوات الثراء و النعمة و الرفاهية و الرغد ، فرَنا إليها النظرة الأولى فتعَلّقَها ، فكررها أخرى ، فبلغت منه ، فتراسلا ، ثم تزاورا ، ثم افترقا و قد ختمت روايتهما بما تختم به كل رواية غرامية يمثلها أبناء آدم و حواء على مسرح هذا الوجود .
عادت الفتاة إلى أهلها تحمل بين جنبيها هما يضطرب في فؤادها ، و جنينا يضطرب في أحشائها ، و قد يكون لها الى كتمان الأول سبيل ، أما الثاني فسر مذاع ، و حديث مشاع ، إن اتسعت له الصدور ، لا تتسع له البطون ، و إن ضن به اليوم ، لا يضن به الغد .
ذلك ما أسهر ليلها ، و أقض مضجعها ، و ملك عليها وجدانها و شعورها ، فلم تر لها بدا من الفرار بنفسها ، و النجاة بحياتها ، فعمدت الى ليلة من الليالي السوداء فلبستها ، و تلفعت بردائها ، ثم ألقت بنفسها في بحرها الأسود ، فما زالت أمواجها تترامى بها حتى ألقتها الى شاطئ الفجر ، فإذا هي في غرفة صغيرة في إحدى المنازل البالية ، في بعض الأحياء الخاملة ، و ذلك الجنين المضطرب .
كان لها أم تحنو عليها ، و تتفقد شأنها ، و تجزع لجزعها ، و تبكي لبكائها ، ففارقتها ؛ و كان لها أب لا هم له في حياته إلا أن يراها سعيدة في آمالها ، مغتبطة بعيشها ، فهجرت منزله ؛ و كان لها خدم يقمن عليها ، و يسهرن بجانبها ، فأصبحت لا تسامر غير هذه الوحدة ، و لا تساهر غير الوحشة ؛ و كان لها شرف يؤنسها ، و يملأ قلبها غبطة و سرورا ، و رأسها عظمة و افتخارا ، ففقدته ؛ و كان لها أمل في زواج سعيد ، من زوج محبوب ، فرزأتها الأيام في أملها .
ذلك ما كانت تناجي نفسَها به صباحَها و مساءها ، بكورها و أصائلها ، فإذا بدا لها أن تفكر في علة مصائبها ، و سبب أحزانها ، علمت أنه ذلك الفتى الذي وعدها أن يتزوجها فخدعها عن نفسها و لم يفِ بعهده لها ، فقذف بها و بكل ما تملك يدها في هذا المصير .
فلا يكاد يستقر ذلك الخاطر في فؤادها ، و يأخذ مكانه من نفسها ، حتى تشعر بجذوة نار تتقد بين جنبيها من الحقد و الموجدة على ذلك الفتى ، لأنه قتلها ، و على المجتمع الإنساني ، لأنه لا يأخذ القاتل بجريمته ، و لا يسلكه في سلسلة المجرمين .
و ما هي الا أيام قلائل حتى جاءها المخاض ، فولدت وليدتها من حيث لا ترى بين يديها من يأخذ بيدها ، أو يساعدها في خطبها ، غير عجوز من جاراتها ألمَّتْ بشأنها ، فمشت اليها و أعانتها على أمرها بضع ساعات ، ثم فارقتها تكابد على فراش مرضها ما تكابد ، و تعاني من صروف دهرها ما تعاني .
و لقد ضاق صدها ذرعا بهذا الضيف الجديد ، و هو أحب المخلوقات إليها ، و أكثرهم قربا إلى نفسها ، فجلست ذات ليلة و قد وضعت طفلتها النائمة على حجرها ، و أسندت رأسها الى كفها ،
و ظلت تقول :
ليت أمي لم تلدني ، و ليتني لم أكن شيئا .
لولا وجودي ما سعدْتّ ُ ، و لولا سعادتي ما شقيتُ .
إن كان في العالم وجود أفضلَ منه العدم فهو وجودي .
لقد كان لي قبل اليوم سبيل الى النجاة من هذه الحياة ، أما اليوم فقد أصبحتُ أمّا فلا سبيل .
أأقتل نفسي فأقتل طفلتي ؟ أم أحيا بجانبها هذه الحياة المريرة ؟ .
لا أحسب أن الموت تاركي حتى يذهب بي إلى قبري ، فماذا يكون حال طفلتي من بعدي ؟ .
إنها ستعيش من بعدي ، و تشقى في الحياة شقائي ، لا لذنب جنته ، و لا لجريمة اجترمتها ، سوى أنني أمها .
هل تعيشين أيتها الفتاة حتى تغفري لي ذنب أمومتي حينما تسمعين قصتي ، و تفهمين شكاتي ؟ .
لم يبقَ في يدي يا بنيَّتي من حليي إلا قليل ، سأبيعه كما بعت سابقه ، فماذا يكون شأني و شأنك بعد اليوم ؟ .
محال أن أعود إلى أبي فأقص عليه قصتي ، لأنه لم يبق لي مما يعزيني عن شقاء العيش و بلائه إلا أن أهلي لا يعرفون شيئا عن جريمتي ، فهم يبكونني كما يبكون موتاهم الأعزاء ، و لأنْ يبكوا مماتي خير لي و لهم من أن يبكوا حياتي .
و كذلك ظلت تلك البائسة المسكينة تحدث نفسها تارة ، و طفلتها أخرى ، بمثل هذا الحديث المحزن الأليم ، حتى غلبها صبرها على أمرها ، فأرسلت من جفنيها قطرات حارة من الدموع هي كل ما يملك الضعفاء العاجزون ، و يقدر عليه القانطون اليائسون .
دارت الأيام دورتها ، و باعت الفتاة جميع ما تملك يدها ، و ما يحمل بدنها ، و ما تشتمل عليه غرفتها ، من حلي و ثياب ، و أثاث و رياش ، و لم يبق لها الا قميصها الخَلْقُ و ملْأتها و برقعها ، و لم يبق لطفلتها الا أسمال باليات تنم عن جسمها نميمة الوجه عن السريرة ، فكانت تقضي ليلها شر قضاء ، حتى إذا طار غراب الظلام عن ِمجـْـثـَمِـهِ أسْبَلَتْ برقعها على وجهها ، و ائتزرت بمئزرها ، و أنشأتْ تطوف شوارع المدينة ، و تقطع طرقها ، لا تبغي مَقصِدا ، و لا تريد غاية ، سوى الفرارَ بنفسها من همها ، و همّـُها لا يزال يسايرها ، و يترسم مواقع أقدامها .
أحسب أن عجوزا من عجائز المواخير رأتها ، فألمت ببعض شأنها ، فاقتفت أثرها حتى دخلت غرفتها ، فوَغَلَتْ عليها ، و سألتها ما خطبها ، فأنست الفتاة عند رؤيتها ، و كذلك يأنس المصدور بنفثاته ، و البائس بشكاته ، فأصرحت لها بسرها ، و ألقت إليها بخبيئة صدرها ، و لم تترك خبرا من أخبار نعيمها ، ولا حادثا من حوادث بؤسها ، لم تحدثها به ، فعرفت الفاجرة محنتها ، و رأت بعينها ذبك الماءَ من الحسن الذي يجول في أديم وجهها ، جولان الراح في زجاجتها ، و علمت أنها إن وضعتها في منزلها ، فقد أحرزت غنى الدهر ، وسعادة العمر ، و ما هو الا أن ارسلت إليها بعض عقاربها ، و نفثت في نفسها بعض رقاها ، حتى غلبتها على أمرها ، و قادتها الى منزلها ، و ما هي الا عشية وضحاها ، حتى بلغت بها الغاية التي لا مفر لها و لا لأمثالها من بلوغها .
عاشت تلك البائسة في منزلها الجديد ، عيشا أشقى من عيشها الأول في منزلها القديم ، لأنها ما كانت تستطيع أن تصل الى لقمتها ، و هي كل ما حصلت عليه في حياتها الجديدة ، إلا اذا بذلت راحتها ، و شردت نومها ، وأحرقت دماغها بالسهر ، و أحشاءها بالشراب ، و صبرت على كل من يسوقه اليها حظها من سباع الرجال و ذئابهم ، على اختلاف طباعهم ، و تنوع أخلاقهم ، لأنها لم تر لها بدا من ذلك ، فاستسلمت استسلام اليائس الذي لم تترك له ضائقة العيش الى الرجاء سبيلا .
ولو أن الدهر وقف معها عند هذا الحد لهان الأمر ، و لألفت الشقاء ومرنت عليه ، كما يألفه و يمرن عليه كل من سار في الطريق التي سارت فيها ، ولكنه أبى إلا أن يسقيها الكأس الأخيرة من كؤوس شقائه ، فساق اليها ذئبا من ذئاب الرجال كان ينقم عليها شأنا من شؤون شهواته و لذاته ، فزعم أنها سرقت كيسه في إحدى لياليه التي قضاها عندها ، و رفع أمرها الى القضاء ، واستعان عليها ببعض أترابها الساقطات اللواتي كن يحسدنها ، و ينفسن عليها حسنها وبهاءها ، حتى دانها .
جاء يوم الفصل في أمرها ، فسيقت الى المحكمة و في يدها فتاتها ، و قد بلغت السابعة من عمرها ، فأخذ القاضي ينظر في القضايا و يحكم فيها بما يشاء حتى أتى دور الفتاة ، فما وقفت بين يديه ، ووقع بصرها عليه ، حتى شدهت عن نفسها ، و ألم بها من الحيرة و الدهشة ما كاد يذهب برشدها ، ذلك أنها عرفته و عرفت أن ذلك الفتى الذي كان سبب شقائها ، و علة بلائها ، فنظرت اليه نظرة شزراء ، ثم صرخت في وجهه صرخة دوى بها المكان دويا ، و قالت :
رويدك يا مولانا القاضي ! ليس لك أن تكون قاضيا في قضيتي ، فكلانا سارق ، و كلانا خائن ، و الخائن لا يقضي على الخائن ، و اللص لا يصلح أن يكون قاضيا بين اللصوص .
فعجب القاضي و الحاضرون من هذا المنظر الغريب ، و غضب لهذه الجرأة العجيبة ، و همَّ أن يدعو الشرطي لإخراجها ، فحسرت قناعها عن وجهها ، فنظر اليها نظرة ألمَّ فيها بكل شيء ، فشعر بالرعدة تتمشى في أعضائه ، و سكن في كرسيه سكون المحتضر في سرسر الموت ، و عادت الفتاة الى اتمام حديثها ، فقالت :
أنا سارقة المال ، و انت سارق العرض ، و العرض أثمن من المال ، فأنت أفجر مني جناية ، و أعظم جرما .
إن الرجل الذي سرقت ماله يستطيع أن يعزي نفسه عنه باسترداده أو الاعتياض منه ، أما الفتاة التي سرقتَ عرضها فلا عزاء لها ، لأن العرض الذاهب لا يعود .
لولاك ما سرقـْـتُ ، و لا وصلت الى ما إليه وصلت ُ ، فاترك كرسيك لغيرك ، و قف بجانبي ليحاكمنا القضاء العادل على جريمة واحدة أنت مدبرها ، و أنا المـُــسَــخـّـرة ُ فيها .
إن شريعة ً تعلم أننا شركاءُ في جريمة واحدة ، ثم تأتي بنا الى هذا المكان ، فتقف أحدنا في أشرف المواقف ، و تقف الآخر في أدناها ، لشريعة ظالمة ، ليس بينها و بين العدل نسب موصول ، أو ذمام غير منقضب .
رأيتك حين دخلت هذه القاعة ، و سمعت الحاجب يصرخ لمقدمك ، و يستنهض الصفوف للقيام لك ، و رأيت نفسي حين دخلت و ط§ظ„ط¹ظٹظˆظ† تتخطاني ، و القلوب تقتحمني ، فقلت / يا للعجب !!! كم تكذب العناوين ، و كم تخدع الألقاب ، و كم يعيش هذا العالم في ضلالة عمياء ، و جهالة جهلاء .
بخ بخ لأولئك الذين منحوك هذه الشهادة ، شهادة العلم و الفضل ، و الأخلاق و الآداب ؛ و مرحى مرحى لأولئك الذين أقعدوك هذا المقعد ، و وضعوا بين يديك هذا القانون ، و أوقفوا أمامك هذا الشرطي يأتمر بأمرك ، و ينزل على حكمك .
إن تحت هذه الثياب التي تلبسونها معشر القضاة نفوسا ليست بأقل من نفوسنا شرا ، و لا أخبث منها مذهبا ، و ربما لا يكون بيننا و بين الكثير منكم فرق الا في العناوين و الألقاب ، و الشمائل الأزياء .
أتيت بي الى هنا لتحكم علي بالسجن ، كأنْ لم يكفك ما أسلفت إلي من الشقاء ، حتى أردت أن تجيء بلا حق ، لذلك السابق .
ألم أحسن اليك بساعة من ساعات السرور فترعاها ؟ .
ألست إنسانا ذا شعور و إحساس فترثي لشقائي و بلائي ؟ .
إن لم يكن عندي وسيلة أمتّ ُ بها إليك ، فوسيلتي عندك ابنتك هذه ، فهي الصلة الباقية بيني و بينك .
فرفع القاضي رأسه ، و نظر الى ابنته الصغيرة نظرة رحمة و اشفاق ، و قد قرر في نفسه أنْ لابد له من أن ينصف تلك البائسة ، و ينتصف لها من نفسه ، غير أنه أراد أن يَـخـْــلـُــصَ من هذا الموقف خلوصا جميلا ، فأعلن أن المرأة قد أصيبت بدخل في عقلها ، و أن لا بد من إحالتها على الطبيب ، فصدق الناس قوله .
ثم قام من مجلسه بنفسٍ غير نفسه ، و قلبٍ غيرِ قلبه ، و ما هي إلا أيام قلائل حتى استقال من منصبه بحجة المرض ، و لم يزل يسعى سعيه حتى ضم اليه ابنته ، و استخلص أمها من قرارتها ، و هاجر بها الى بلد لا يعرفهما فيه أحد ، فتزوج منها ، و أنِـسَ بعشرتها ، و احترف في دار هجرته حرفة لولا مخافة أن أدل عليه إذا ذكرتها لذكرتها ، و لا يزال حتى اليوم يكفر عن سيئاته الى زوجته بكل ما يستطيعه من صنوف الرعاية ، و أنواع الكرامة ، حتى نسيا ما فات ، و لم يبق أمامهما الا ما هو آت .





>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

روعة مرررررهـ
قصة مؤثرة
تنقل للقسم المناسب
القصص و الروايات



__________________________________________________ __________
هديل المحبه

اسعدني تواجدك الجميل



__________________________________________________ __________
يسلموو يالغلا وينقل للقسم المناسب


__________________________________________________ __________
قصه مؤثره حقآ
ادمعت منه الأعين
تحيااتي لك



__________________________________________________ __________
يسلموو ربي يعطيكي العااااااافيه